لقد تشتّتت قلوبنا على مستوى الدول، وعلى مستوى الدين، والقومية، والوطن، واللواء، والمدينة، والحارة، والعائلة. كلّنا مشتّتون، ولا يمكن لهذا أن يحدث دون فِعل فاعل! ولذلك، من الطبيعي أن يكون الفاعل معروفًا أو مستترًا؛ على الأقل هكذا تعلّمنا في كلّ مراحل التعليم.
هل شتات القلوب هو شتات العقول؟ لقد كنّا نتألّم ونفرح للقريب وللبعيد. لقد مرّ زمن علينا لا نرى فيه العالم الخارجي بكل أطيافه، من دول حتى أصغر المجموعات، ولكنّنا كنّا نفرح ونرقص ونحزن لما يحدث. لا أحد يريدنا أن نفرح، وفرحُنا - على مستوى كرة القدم - كان أيام صعود الكويت إلى كأس العالم. فرحنا عند كل إنجاز لعربيّ ومسلم، في محيط يزخر بالتشتّت والفُرقة السياسية، ولكنه مجتمع في عقل واحد، أو قل ثلاثة: بين تيار قومي ظاهر، وإسلاميّ مُطارَد، وعلمانيّ يقفز بين المحطّات.
ورغم ذلك كلّه، كانت عقولُنا تتألّم وتفرح وتلتقي وتناقش وتهتمّ فمن الفاعل الذي ضخّ فيها وقودًا ملوثًا، فأصبحت ملوّثة، تبحث عن الفرقة والانعزال، لا عن الوحدة والالتحام؟
هل على نفسها جنت براقش؟ هل التفت إلينا أحدٌ فأدرك المكنون والمضمون؟ أم حدث ما لم يكن في الحسبان، فزللنا الطريق؟ الحقيقة أني ما زلت أؤمن أن لكل فعل فاعلًا، ولا أستطيع تصوّر غير ذلك، حتى ولو كان الفاعل مستترًا أو غائبًا، أو ناب عنه أحد، فإنه دون شك فاعل.
إذا بحثنا عن الفاعل، نستطيع أن نفهم كثيرًا مما مرّ معنا فنحن، كمجتمع مفكّك الروابط والعلاقات، تربطنا اليوم صِلات غريبة، تحكمنا عادات غريبة. قلوبنا يجري داخلها الصدأ المكوَّن من الكراهية، والحقد، والغضب، وكثير من حبّ النفس والطمع، وكلّ ذلك بلون الدم.
وإلّا، فما معنى ألّا تتحرّك القلوب وحولنا كلّ المآسي، من غزّة هاشم إلى كل الأقطار التي تربطنا بها العلاقات الثلاث: القومية، والإسلامية، والعلمانية؟ لقد تحجّرت القلوب.
الدم الذي نشاهده يوميًا، وجراح المنكوبين والمقتولين والمظلومين من أبناء شعبنا، في الداخل والخارج، بأيدينا نحن؛ هل نحن الفاعل؟ أم نحن نائب فاعل، والفعل مبنيّ للمجهول؟ من كان يجرؤ بالأمس أن يتحدّى إرادة العقول الثلاثة، أصبح اليوم يتجرأ على كلّ القيم والمبادئ والأخلاق.
“من الفاعل؟” ليست صرخة مجازية، إنها حقيقية.
يبدو لي أن الفاعل ليس ظاهرًا، ولذلك لا بدّ لنا من البحث عنه، وعن نائبه، حتى نُجيب.
ونحن بين حالات عدة:
• مستتر تقديره “أنا” و”أنت”.
• مستتر تقديره “هو” و”هي”، ويجوز هنا استعمال صيغة المفرد والجمع.
• نائب فاعل، وهنا تصبح الأمور أكثر تعقيدًا فنقول: من الذي ناب عن الفاعل؟ ولماذا يختفي الفاعل؟ وما هي مصلحته؟
من الواضح أن الفاعل بكل أشكاله ونوّابه، هو المستفيد الأول من الضياع الذي نحن فيه؛ فقد تفكّكت الأواصر وتقطّعت، ولذلك يستطيع الفاعل أن يمرّر أي أجندة يرغب فيها. أليس هذا ما يريده كل الفاعل!
وهنا نعود بلفتة سريعة من الأقطار والأشقاء والاخوة إلى المحلية، من الفاعل الذي أوصلنا إلى الحضيض في الأمن والأمان؟ هل هو مستتر أم أن الضمة ظاهرة على وجهه تعلوها ابتسامة ساخرة، وربما نائب فاعل يشعر بزهو وغرور أنه من مقربٌ من الفاعل!
أن الذي يفجر، يقتل، يطلق الرصاص، يتاجر في المخدرات، يأخذ الخاوة والإتاوة ما هو إلا نائب فاعل ولكن الفاعل ظاهر مستفيد من حدوث الجريمة والضياع والتفكك.
لا ألقي اللوم على الفاعل الأكبر فقط، بل اراقب عن كثب كيف أصبح نائب الفاعل مفعولا به وليس من أجله.
وحتى نلتقي، تعددت الأدوار والفاعل معروف مستتر ظاهر، لا جرم أننا نراه ونفعل ما تقوله البدو " بنشوف الذيب وبنقص أثره"، بكلمات بسيطة نرى الجاني تحت الضوء ونبحث عنه.
قد يبدو الأمر عاديًا لمن يريد أن يمتهن دور نائب الفاعل، مفعول به او حتى مفعول فيه لكنه مؤكد ليس مفعولاً لأجله.
علينا أن ندرك جليًا أن الفاعل هنا جانٍ، لا يريد لنا الخير وهمه أن نبقى ندور في رحى الأدوار ولا نستيقظ من النوم.