ما زال الحزن يخيّم على حياته، وهو يحمل عبء الفقدان الثقيل وحيدًا، يحاول أن يجد بين الركام والدمار قوة للاستمرار.
يستذكر الأب الثاكل، المحامي رجا خطيب، في حديث لموقع بانيت وقناة هلا تفاصيل ذلك اليوم الأليم الذي غير حياته إلى الأبد، قائلاً: "في يوم الحادثة، كنت خارج البيت، ووصَلنا عبر الهاتف أن هناك إنذار، وأنه سيكون هناك اطلاق صواريخ. فورًا ركبت السيارة وجئت إلى البيت، وصعدت إلى منزلي. دخلت إلى الدرج الأول، كنت أريد أن أدخل إلى الدار من الطبقة الثانية، وعندما وصلت إلى مدخل البيت عند بيت الدرج، سمعت "بوم" رهيب.. فَقَع قدامي، وانقطعت الكهرباء. ساد صوت هدوء وسكون تام. الغبرة ملأت المكان. صمت مطبق. ظننت أنني متّ. نظرت إلى نفسي، فلم أُصَب بشيء".
ومضى قائلاً: "دخلت إلى البيت، كنت قريبًا من الملجأ، أردت أن أطمئن على عائلتي، على زوجتي وبناتي الثلاث. كان الهاتف في جيبي، فأضأت الفلاش، لأن المكان كان مظلمًا ومليئًا بالغبرة. ثم صعدت باتجاه الملجأ، فرأيت ابنتي رزان تخرج من الملجأ، كلها غبرة، وترتجف وتبكي. قلت لها: "آه حبيبتي، اطلعي، فيكي إشي؟" لم يكن بها شيء. سألتها: "وين أمك؟ وين خواتك؟ وين شذى وحلا؟" بدأت تنطّ وتعيّط وتقول: "ما نزلوا معي، كانوا نايمين فوق. قررت أن أذهب إلى الطبقة الثالثة، حيث غرف النوم. لكن الدرج الذي يوصلني لفوق كان محطّمًا، وقضبان الحديد طالعة، والبطون متراكم فوق بعضه. تركت ابنتي في الأسفل، وصعدت على الركام نحو الأعلى. بيت أخي كله كان نازل، لم تعد هناك طبقة ثالثة، فقط ركام وغبرة ودخان. كنت أبحث كما المجنون، والسماء فوقي، وأنا أفتّش بين الركام، أبحث عن بناتي شذى وحلا، وزوجتي منار، وزوجة أخي منار فخري، بقلهم بنادي قولوا اه منار قولي اه وينك شذى حلا ؟ وينك زي المحنون، ضليت على هاي الحال سبع او ثماني دقائق وأنا أبحث بين الركام، أصرخ، وأنادي: "يا الله، يا الله"، والسماء فوق، وأنا أفتّش بينهم. حتى وصلت فرق الإطفاء، وجاء الناس والجيران، وأنزلوهم، وصار يلي صار".
"حاسس نار بقلبي"
وعن وضعه الحالي ومشاعره، قال رجا خطيب: "ما زلت تحت وقع مصيبة كبيرة، إنه ابتلاء عظيم، مصاب جلل… كل من جاء ليعزّيني يردد: "المصاب جلل"، لكنه ابتلاء لا تتحمله الجبال. والله حاسس نار بقلبي. المشيّعون جاءوا من كل البلاد، من العرب واليهود، لم يقصّر أحد. رئيس الدولة، الوزراء، الجميع حضروا ليأخذوا بالأجر ويقدّموا العزاء. لكن المصيبة فوق كل وصف… فقدت زوجتي وبنتَيّ الاثنتين. زوجتي منار، كانت معلمة مدرسة، ما شاء الله عليها، تحمل لقبًا ثانيًا بالعربية والعبرية، كانت زوجة مثالية، ربت بناتي على التقوى والشطارة. وابنتي شذى، المسكينة، كانت في السنة الثانية في كلية الحقوق بجامعة حيفا، طالبة متفوقة، كانت تحلم أن تصبح محامية مثلي، بل كانت تقول لي دائمًا: "بدي أصير أشطر منك يابا، بدي أصير حاكمة"… حلمٌ لن يتحقق. أما حلا، المسكينة، شو شافت بحياتها؟ لم أعد إلى بيتي… وفوق الفقد، فقدت البيت أيضًا".
محفظة ورسالة واحدة تفيض حبًا
أخرج الأب الثاكل محفظته التي يحتفظ فيها بصور عائلته، قائلاً بصوت مرتجف: "كان جزداني بالسيارة اسا جابولي إياه صور عيلتي صور ضلوا معي بالجزدان، وهنا رسالة كتبتها لي ابنتي حلى وهي بالصف الأول، بابا انا بحبك كثير انا بحبك".
"رزان قوية، الحمد لله، شخصيتها قوية"
وحول وضع ابنته رزان، قال رجا خطيب: "رزان... الله يكون بعونها. رزان قوية، الحمد لله، شخصيتها قوية. أحيانًا أفكّر في اللحظة نفسها... كانت مسألة ثوانٍ فقط، ولو أنني صعدت أربع درجات أخرى، لكان الصاروخ أصابني مباشرة، وكنت اليوم من عداد الموتى. أحيانًا يُراودني هاجس: ماذا لو جاء الصاروخ نحوي بدلًا من كل هذا الألم؟ لكن سرعان ما أقول: الحمد لله، قدّر الله وما شاء فعل. ربنا أبقى لي رزان… هي لحقت تنزل إلى الملجأ، ونجت".
ومضى قائلاً: "زوجة أخي كانت في بيت أهلها، ولما سمعوا أن هناك قصفًا، عادت إلى بيتنا، لأنه جديد، قوي، ومتين، وفيه أربعة غرف محصنة . لكن الصاروخ أصاب الغرفة المحصنة في الطبقة الثالثة، واخترق إلى الطبقة الثانية، وكانت الغرفة المحصنة التي لجأت إليها رزان، لكن الأضرار فيه كانت بسيطة… وربنا نجاها. أقول دائمًا: ربنا أبقاني أنا ورزان لنكون لبعض… ولنحمل ذكرى الشهيدات الأربع".
"فقدت كل شيء"
تابع الاب الثاكل قائلاً والدموع في عينيه: "كنتُ أشعر أنني أملك الدنيا كلها، لم يكن ينقصني شيء… واليوم، فقدت كل شيء. لم أفقد عائلتي فقط، بل فقدت البيت، القصر الذي بنيته أنا وأخي إيهاب، قضينا عشرين عامًا نبنيه، حجرًا حجرًا… وضاع في لحظة. أنا مستعد أن أفدي كل ما أملك… فقط أعيدوا لي بناتي، وأعيدوا لي زوجة أخي. رزان اليوم هي كل حياتي، هي بعيوني… سأحميها بكل ما أستطيع. حاليًا تنام في بيت جدها – أهل والدتها – في طمرة، يعتنون بها، يحيطونها بالرعاية والحنان. أنا أراها، وأزورها، وأحاول الآن أن أرتب مكانًا للسكن. فأنا أسكن مؤقتًا في بيت أهلي، وأسعى جاهدًا لترتيب سكن مؤقت، حتى إذا جاءت رزان عندي، نكون معًا، أنا وهي".
"أحاول أن أكون قويًا"
واردف قائلاً: "أحاول أن أكون قويًا، أعمل على نفسي… أمامي خياران لا ثالث لهما: إما أن أتنازل وأقول: "هذه مصيبة قدّرها الله"، وأغادر. لدي بيت في إيطاليا، ويمكنني أن أسافر إلى هناك، آخذ ابنتي رزان وأكمل حياتي بعيدًا عن كل هذا الألم… وإما أن أبدأ من جديد، أبني بيتًا جديدًا، وأعود إلى عملي، وأحاول الوقوف من تحت الركام. الذي يمنحني القوة الآن هي رزان… لو كنتُ وحيدًا، لحملت حقيبتي وسافرت دون أن أفكّر مرتين. لكن رزان هي سبب بقائي هنا. من أجلها فقط أنا هنا، ومن أجل إخوتي، وأمي، وأبي… أريد أن أكون قويًا من أجلهم جميعًا. سأبذل كل جهدي… سأحاول أن أتماسك، وأسأل الله أن يُلهمني الصبر والقوة، حتى أتمكن من بدء حياتي من جديد. إيماني بالله كبير، وأرجو أن يُعوضني الله خيرًا، وأن أكمل طريقي من أجل رزان… من أجل ابنتي".
وحول لحظاته الأخيرة مع عائلته، قال رجا خطيب: "قبل يومين من الحادثة، كنت أنا وزوجتي وشذى وحلا في إيطاليا، كأننا على سقف العالم. قضينا أجمل الأيام هناك، بينما رزان لم تكن معنا، لأنها كانت منشغلة بامتحانات البجروت. احتفلنا بالعيد في إيطاليا، كانت أيامًا رائعة، ودللت زوجتي وبناتي بأقصى ما أستطيع، حتى آخر يوم. هذا شيء يخفف عني قليلًا من ثقل الألم، لأنني لا أشعر أنني قصرت معهن. كل شيء كان لهن، ولم يكن لي غيرهن في الدنيا. أسأل الله أن يرحمهن، وأن يجعلهن شهيدات في جنات عدن. ما يخفف عني الألم أن كل الشيوخ، من دروز ومسلمين ومسيحيين ويهود، قالوا لي: إنهن شهيدات، وأنهن في الفردوس الأعلى، وأنهن سيشفعن لنا عند الله. هن الآن في مكان أفضل، أما نحن فهنا، في هذا الواقع الذي أشبه بـ"جنينة الحيوانات" في الوسط العربي والبلاد التي تعصف بها الحروب".
" أمها من فوق بتوصيني عليها وبتقلي دير بالك على رزان"
ومضى قائلا: "أنا الآن في مهمة كبيرة، المهمة الأولى هي الحفاظ على رزان، لأنني متأكد أن أمها من فوق بتوصيني عليها وبتقلي دير بالك على رزان وخليها تتعلم. المهمة الثانية هي أن اخلد ذكراهن. بدأت العمل على هذا الأمر مع الجهات المسؤولة، بمساعدة صديقي وأخي، رئيس بلدية طمرة، وبالتنسيق مع الجهات المختصة. نخطط لإنشاء طريق يخلد ذكرى الشهيدات الأربع، لكن كل ذلك سيكون بعد أن أخرج من هذه المحنة، وأستعيد نفسي. بالطبع، أمامي مسار طويل ".
"دعونا نعيش بسلام"
واختتم قائلاً: "ما خفف عني الألم هو تجاوب وحزن الوسط العربي وأخوتنا من اليهود الانسانيين، فليس حديثي عن أولئك الذين قالوا "انحرقوا وموتوا"، بل عن الغالبية التي جاءت لتعزيني. شعرت خلال فترة التعازي بمحبة الناس لي، وبوقوف المجتمع العربي من جميع أطيافه إلى جانبي. رسالتي واضحة: كفى حروبًا، كفى قتلًا، بخلصوا حرب غزة، تندلع حروب في لبنان، ثم سوريا، ثم إيران، ثم اليمن… كفى عنفًا، كفى دمارًا، كفى ضحايا. دعونا نعيش بسلام. هذه رسالتي لكل من اليهود والعرب: كتب علينا أن نعيش معًا، فلنعط بعضنا فرصة لنعيش بسلام وبمساواة".
المرحومات منار أبو الهيجاء خطيب وابنتاها شذا وحلا، والمرحومة منار ذياب خطيب - صور متداولة تم نشرها بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية 2007، اذا كنتم تعرفون من قام بتصويرها ابعثوا رسالة الى panet@panet.co.ilصور من تشييع جثامين المرحومات - تصوير موقع بانيت
صورة من لجنة المتابعة
صور من مكان سقوط الصاروخ في الجليل - تصوير سلطة الاطفاء