مقال: لماذا يسمح الله بالشّرِّ في العالم؟ بقلم : الشيخ عبد الله ادريس
يسأل بعض الناس: لماذا يسمح الله بالشر في الكون؟ ولماذا لا يتدخل سبحانه لإزالته؟ وما ذنب أطفال غزة ليموتوا؟ وكيف بربٍّ رحيمٍ يسمح بوجود مثل هذه الابتلاءات والمصائب والحروب والآلام؟ لماذا لا ينتقم الله من الظالمين المجرمين؟
الشيخ عبد الله ادريس - صورة شخصية
هذا ما يقوله الملحدون ليقرروا أن الله عز وجل ليس موجودًا، وذلك بحجة أن الرب الذي تؤمنون به هو إله رحيم وقادر وعليم، فإذا كان الإله قادرًا على إزالة الشر ولم يزِله فهو شِرّير، وإذا كان غير قادر فهو عاجز، وإذا علم بوجود الشر ولم يزِله فهو ظالم، وإذا كان لا يعلم فهو جاهل، وإذا كان رحيمًا ولم يتدخل فهو شِرّير، وفي المحصلة، فإن وجودَ الشرّ في الكون يفيد عدم وجود إله.
تلك هي مشكلة الشر التي ردّدَها الملحدون كما صاغها الفيلسوف اليوناني "أبيقور"، وبات كثير من الناس يردِّدونها، وهؤلاء تعاملوا مع صفات الله تعالى بشكل منعزل عن بقية صفاته، حيث فهموا أن الله جل جلاله له ثلاث صفات: (الرحمة والقدرة والعلم) ولا يعقل لإله يتمتع بالرحمة والقدرة والعلم، ويعلم بوجود الشر، وقادر على إزالته عن المظلومين، ورحيم بخلقه، ومع ذلك يمتنع عن إزالته. ومن هنا، فإن هذه الشبهة التي بات يرددها كثير من المسلمين اليوم يُجاب عنها بما يلي:
أولًا: القرآن يعلمنا أن لا نتعامل مع صفات الله بشكل فردي، فكما أنه رحيم فهو كذلك حكيم، وعلى سبيل المثال، فإن من أسماء ربنا أنه رحيم، ولكننا إذا تعاملنا مع صفة الرحمة لوحدها، سنجد أن الله برحمته سيظلم الناس، ففي يوم القيامة سيرحم أطفال غزة، ويرحم فرعون، ويرحم طغاة الأرض الذين استباحوا دماء المسلمين والأبرياء، وهنا نقول: صحيح أنه رحيم، لكنه في نفس الوقت عادل. فلو كان رحيمًا فقط فسوف يظلم برحمته المستضعفين، ولذلك، فإن الله جل جلاله حكيم أيضًا. ثم إن وجود الشر في العالم ليس معناه عدم وجود إله في الأرض، فلا علاقة بينهما، فعندما يسمح الأب للطبيب أن يحقن ولده بحقنة علاجية فإن الولد سيتألم من وخز الإبرة، فهل هذا يعني أن الأب الذي سمح للطبيب أن يؤذي ولده بالإبرة غير موجود؟!
ثانيًا: ما الحكمة إذن من سماح الله سبحانه للشر بالتواجد؟
إذا فتشت داخل خيمة عن كلب ولم تجده فمن المنطق أن تقول: لا يوجد كلب؛ ولكن، إذا فتشت عن بعوضة النوسيومة ولم تجدها، فمن المنطق أن تقول أيضًا: لا يوجد بعوضة، لأنه من الصعب جدًا أن تراها لصغر حجمها مقارنة بإمكانيات أعيننا، وهكذا الذي يفترض أنه لو كان هنالك أسباب وجيهة لوجود شر في العالم لكانت حكمتها واضحة في متناول عقولنا وهذا ليس صحيحًا. فإن عقولنا البشرية قاصرة عن إدراك حكمة الله في كل شيء، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وأيضًا، قد يُقَدّرُ الله البلاءَ على أقوام، ويمنعه عن أقوام، لأنه يعلم أن هؤلاء أقدر على الصبر من غيرهم، فيصبرون ويحتسبون في وجه أعداء الله، فيغيظونهم بصبرهم ورباطهم وإيمانهم، ولو أنه قدَّر هذا البلاء على غيرهم لتنازلوا عن مبادئهم، وربما كفروا بربهم جل جلاله. وفي هذا ورد في الأثر: " إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالقلة، ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم، ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصح إيمانه إلا بالصحة، ولو أسقمته لكفر" فإذا شاءت إرادة الله البلاء الشديد والتجويع على أهلنا في غزة أو غيرهم من المسلمين، فإن لله سبحانه حِكَمًا خفيت عن أذهاننا، وليس لأنه ظالم، أو غير قادر على إزالة الظلم، أو أنه غير موجود.
ثالثًا: مشكلة الكثير أنهم يتعاملون مع الشر في سياقه الدنيوي فقط بمعزل عن الآخرة، فمن يتعامل مع مشكلة الشر بسياقها الدنيوي فقط سوف يشك في صفات الله جل جلاله. فليس شرطًا أن يأخذ الظالم عقابه في الدنيا، فهذا ستالين قتل أعدادًا هائلة ومات على فراشه وزجاجات الفودكا جنبه وشيعه ملايين بعيون دامعة وورود حمراء على قبره، وماوتسي تونغ قتل ستين مليون، وجنكيز خان وهولاكو ونيرون وغيرهم، بل هذا شمعون بيرس حضر جنازته كل العالم. ومن هنا، ينبغي أن يتقرر في قلوبنا أن الله ليس غافلًا عمّا يعمل الظالمون، ولكنه يؤخرهم ليوم القيامة الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، قال تعالى: "ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار" سورة إبراهيم آية42، وهو القائل جل جلاله عن يوم القيامة: "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب" سورة غافر آية 17.
رابعًا: لو أننا نظرنا إلى الدنيا بطريقة رياضية لوجدنا أنها لا شيء، فلو أن شخصًا عاش ستين عامًا يعاني من الظلم والمصائب والابتلاءات وصبر على ذلك فدخل الجنة التي لا نهاية لها لكانت سنينه الستونَ من المعاناة صفرًا أمام الجنة الخالدة. ولذلك، يقول عليه الصلاة والسلام: "يُؤْتَى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النَّارِ يَومَ القِيامَةِ، فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ" (رواه مسلم).
خامسًا: يسأل بعض الإخوة: (ولماذا نحن المسلمون مضطهدون في قتل وفقر وتجويع، وغيرنا منعمون مترفون آمنون وهم لا يعبدون الله تعالى)؟
هذا ما سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "يا رسول الله، ادعُ الله فليوسِّع على أمتك، فإن فارس والروم وُسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله"، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس وقال له: (أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا)، وفي هذا يعلّمُ النبيُّ عليه الصلاة والسلام الأمةَ أن نِعَمَ الدنيا ليست مقياسًا لحب الله تعالى للعبد، فيبنغي أن لا نغتر إذا فُتحت الدنيا على الظالمين، وضُيقت على المسلمين. قال تعالى: "لا يَغُرَّنَّك تقلبُ الذينَ كفروا في البلاد * متاعٌ قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد"، 196-197سورة آل عمران، وقال جل جلاله: "ولا يحسبنَّ الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذاب مهين" 178سورة آل عمران. إضافة إلى ذلك، فإن الله تعالى إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه، وأشدهم بلاء أكثرهم عبادة وإيمانًا، وربما يعجل الله للكافر طيباته في الدنيا الزائلة، حتى إذا كان في الآخرة لم يكن له فيها نصيب؛ وربما ضيَّق على المؤمنين وابتلاهم بأشد ما نرى من المصائب والابتلاءات ليؤخر لهم النعيم في جنة عرضها السماوات والأرض لا تفنى ولا تبيد؛ فإن الله يقول: (وبشر الصابرين)، ولله الحكمة البالغة.
وأخيرًا، ينبغي أن يعلمَ الناس أن المنعمين في الدنيا سيتمنون يوم القيامة مكانة ودرجات أهل البلاء الصابرين المحتسبين في الجنة. يقول عليه الصلاة والسلام: " يودُّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامة حين يُعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض". ولله في البلاء حِكَمٌ، وهو العليم الحكيم.
سبحان من يبتلي أناسًا – أحبَّهم والبلا عطاءُ
فاصبر لبلوى وكن رضيًّا – فإن هذا هو الدواءُ
سلِّم إلى الله ما قضاه – ويفعل الله ما يشاءُ
من هنا وهناك
-
مقال: هل دفعت الحكومة السورية ثمن موقفها السياسي في مفاوضات اذربيجان - بقلم : د. حسين الديك
-
‘ رأيٌ في اللُّغة . أموت ُوفي نفْسِي شيءٌ من (حَتَّى) ‘ - بقلم: أيمن فضل عودة
-
مقال: حين يتحدّث الحزبيّ الثوريّ عن الديمقراطيّة - بقلم: الشيخ صفوت فريج
-
الإستاذ والمربي جوزيف حلو من الناصرة : ‘تحية إجلال وتقدير للرفيق النقابي كمال أبو أحمد‘
-
‘ قصتان ووقفتان ‘ - بقلم : الشيخ عبد الله عياش
-
‘ التلقين الدّيني المبكّر: بين قدسية العقيدة وحقوق الطفل الفكرية ‘ - بقلم : أ. سامي قرّه
-
مقال: المحامي فريد جبران .. الإنسان المناسب في المكان المقدس‘ - بقلم: رانية مرجية
-
‘بدنا حقنا ، بدنا نعيش بكرامة ‘ - بقلم : عمر عقول من الناصرة
-
‘ لقاء ترامب ونتنياهو: صياغة للبدايات أم تحديد للنهايات! ‘ - بقلم : المحامي زكي كمال
-
‘ أيها الطالب / ايتها الطالبة، صيفك كنز... كيف تستغله بذكاء؟ ‘ - بقلم : الاستاذ رائد برهوم
أرسل خبرا